سورة الأنعام - تفسير تفسير الماوردي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيلِ} يعني به النوم، لأنه يقبض الأرواح فيه عن التصرف، كما يقبضها بالموت، ومنه قول الشاعر:
إنَّ بَنِي الأَدْرَدِ لَيْسوا مِن أَحَدْ *** وَلاَ تَوَفَّاهُم قَرَيْشٌ في العَدَدْ
أي لا تقبضهم.
{وََيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} أي ما كسبتم لأنه مستفاد بعمل الجارحة، ومنه جوارح الطير لأنها كواسب بجوارحها، وجَرْحُ الشهادة هو الطَّعْن فيها لأنه مكسب الإثم، قاله الأعشى:
وهوَ الدَّافِعُ عن ذي كُرْبَةٍ *** أيْدِي القَوْمِ إذا الْجَانِي اجْتَرَحْ
{ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} يعني في النهار باليقظة، وتصرف الروح بعد قبضها بالنوم.
{لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمّىً} يعني استكمال العمر وانقضاء الأجل بالموت.
{ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} يعني بالبعث والنشور في القيامة.
{ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من خير وشر.
قوله عز وجل: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه أعلى قهراً، فلذلك قال: {فَوْقَ عِبَادِهِ}.
والثاني: أن الأقدر إذا استحق صفة المبالغة عبَّر عنه بمثل هذه العبارة، فقيل: هو فوقه في القدرة أي أقدر، وفوقه في العلم أي أعلم.
{وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} فيه وجهان:
أحدهما: أنه جوارحهم التي تشهد عليهم بما كانوا يعملون.
والثاني: الملائكة. ويحتمل {حَفَظَةً} وجهين:
أحدهما: حفظ النفوس من الآفات.
والثاني: حفظ الأعمال من خير وشر، ليكون العلم بإتيانها أزجر عن الشر، وأبعث على الخير.
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} يعني أسباب الموت، بانقضاء الأجل.
فإن قيل: المتولِّي لقبض الروح مَلَك الموت، وقد بين ذلك بقوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُم} [السجدة: 11] فكيف قال: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} والرسل جمع.
قيل: لأن الله أعان مَلَك الموت بأعوان من عنده يتولون ذلك بأمره، فصار التوفِّي من فعل أعوانه، وهو مضاف إليه لمكان أمره، كما يضاف إلى السلطان فعل أعوانه من قتل، أو جلد، إذا كان عن أمره.
{وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} فيه وجهان:
أحدهما: لا يؤخرون.
الثاني: لا يُضَيِّعُونَ، قاله ابن عباس.
قوله عز وجل: {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُم الْحَقِّ} وفي متولِّي لرد قولان:
أحدهما: أنهم الملائكة التي توفتهم.
والثاني: أنه الله بالبعث والنشور.
وفي ردهم إلى الله وجهان:
أحدهما: معناه ردهم إلى تدبير الله وحده، لأن الله دبرهم عند خلقهم وإنشائهم، مكَّنهم من التصرف فصاروا في تدبير أنفسهم، ثم كَفَّهم عنه بالموت فصاروا في تدبير الله كالحالة الأولى، فصاروا بذلك مردودين إليه.
والثاني: أنهم ردوا إلى الموضع الذي لا يملك الحكم عليهم فيه إلا الله، فجعل الرد إلى ذلك الموضع رداً إليه.
فإن قيل: فكيف قال: {مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ} وقد قال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُم} [محمد: 11]. قيل: عنه جوابان:
أحدهما: أنه قال هذا لأنهم دخلوا في جملة غيرهم من المؤمنين المردودين فعمَّهم اللفظ.
والثاني: أن المولى قد يعبر به عن الناصر تارة وعن السيد أخرى، والله لا يكون ناصراً للكافرين، وهو سيد الكافرين والمؤمنين.
و{الْحَقِّ} هنا يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدهما: أن الحق هو من أسمائه تعالى.
والثاني: لأنه مستحق الرد عليه.
والثالث: لحُكْمِهِ فيهم بالرد.
{أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ} يعني القضاء بين عباده.
فإن قيل: فقد جعل لغيره الحكم؟
فعنه جوابان:
أحدهما: أن له الحكم في يوم القيامة وحده.
والثاني: أن غيره يحكم بأمره فصار الحكم له.
ويحتمل قوله: {أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ} وجهاً ثانياً: أن له أن يحكم لنفسه فصار بهذا الحكم مختصاً.
{وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} يحتمل وجهين:
أحدهما: يعني سرعة الحكم بين العباد لتعجيل الفصل، وعبر عن الحكم بالحساب من تحقيق المستوفِي بهما من قليل وكثير.
والثاني: وهو الظاهر أنه أراد سرعة محاسبة العباد على أعمالهم.
ويحتمل مراده بسرعة حسابه وجهين.
أحدهما: إظهار قدرته بتعجيل ما يعجز عنه غيره.
والثاني: أنه يبين به تعجيل ما يستحق عليه من ثواب، وتعجيل ما يستحق على غيره من عقاب جمعاً بين إنصافه وانتصافه.


قوله عز وجل: {قَلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أن العذاب الذي من فوقهم الرجم، والذي من تحت أرجلهم الخسف، قاله ابن جبير، ومجاهد، وأبو مالك.
والثاني: أن العذاب الذي من فوقهم أئمة السوء، والعذاب الذي من تحت أرجلهم عبيد السوء، قاله ابن عباس.
والثالث: أن الذي من فوقهم الطوفان، والذي من تحت أرجلهم الريح، حكاه علي بن عيسى.
ويحتمل أن العذاب الذي من فوقهم طوارق السماء التي ليست من أفعال العباد لأنها فوقهم، والتي من تحت أرجلهم ما كان من أفعال العباد لأن الأرض تحت أرجل جميعهم.
{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} فيه تأويلان:
أحدهما: أنها الأهواء المُخْتَلَقَة، قاله ابن عباس.
والثاني: أنها الفتن والاختلاف، قاله مجاهد.
ويحتمل ثالثاً: أي يسلط عليكم أتباعكم الذين كانوا أشياعكم، فيصيروا لكم أعداء بعدما كانوا أولياء، وهذا من أشد الانتقام أن يستعلي الأصاغر على الأكابر.
روي أن موسى بن عمران عليه السلام دعا ربه على قوم فأوحى الله إليه: أو ليس هذا هو العذاب العاجل الأليم.
هذا قول المفسرين من أهل الظاهر، وَتَأَوَّلَ بعض المتعمقين في غوامض المعاني {عَذَاباً مِن فَوقِكُمْ} معاصي السمع والبصر واللسان {أَوْمِن تَحْتِ أَرْجلِكُمْ} المشي إلى المعاصي حتى يواقعوها، وما بينهما يأخذ بالأقرب منهما {أَوَيَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} يرفع من بينكم الأُلفة.
{وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} تكفير أهل الأهوال بعضهم بعضاً، وقول الجمهور: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} يعني بالحروب والقتل حتى يفني بعضهم بعضاً، لأنه لم يجعل الظفر لبعضهم فيبقى.
{انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ} يحتمل وجهين:
أحدهما: نفصل آيات العذاب وأنواع الانتقام.
والثاني: نصرف كل نوع من الآيات إلى قوم ولا يعجزنا أن نجمعها على قوم.
{لَعَلَّهُم يَفْقَهُونَ} أي يتعظون فينزجرون.
واختلف أهل التأويل في نزول هذه الآية على قولين:
أحدهما: أنها في أهل الصلاة، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، وأن نزولها شق على النبي صلى الله عليه وسلم، فقام فصلى صلاة الضحى وأطالها فقيل له: ما أطلت صلاة كاليوم، فقال: «إِنَّهَا صَلاَةُ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ، إنِّي سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يُجِيرَنِي مِنْ أَرْبعٍ فَأَجَارَنِي مِنْ خَصْلَتِينِ وَلَمْ يُجِرْنِي مِنْ خَصْلَتَينِ: سَأَلْتُهُ أَلاَّ يُهْلِكَ أُمَّتِي بِعَذَابٍ مِنْ فَوقِهِم كَمَا فَعَلَ بِقَومِ نُوْحٍ، وَبِقَومِ لُوطٍ فَأَجَارَنِي، وَسَأَلْتُهُ أَلاَّ يَهْلِكَ أُمَّتِي بعذَاب مِنْ تَحْتِ أَرْجلِهِم كَمَا فَعَلَ بِقَارُونَ فَأَجَارنِي، وَسَأَلْتُهُ أََلاَّ يُفَرِّقَهُمْ شِيَعاً فَلَمْ يُجِرْنِي، وَسَأَلْتُهُ أَلاَّ يُذِيقَ بَعْضَهُم بَأْسَ بَعْضٍ فَلَمْ يُجِرْنِي» وَنَزَلَ عَلَيهِ قَولُه تعالى: {الم أحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 221]
والقول الثاني: أنها نزلت في المشركين، قاله بعض المتأخرين.


قوله عز وجل: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} وفيما كذَّبوا به قولان:
أحدهما: أنه القرآن، قاله الحسن، والسدي.
والثاني: تصريف الآيات، قاله بعض المتأخرين.
{وَهُوَ الْحَقُّ} يعني ما كذَّبوا به، والفرق بين الحق والصواب أن الحق قد يُدْرَكُ بغير طلب، والصواب لا يُدْرَكُ إلا بطلب.
{قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: معناه لست عليكم بحفيظ لأعمالكم لأجازيكم عليها، وإنما أنا منذر، قاله الحسن.
والثاني: لست عليكم بحفيظ أمنعكم من أن تكفروا، كما يمنع الوكيل على الشيء من إلحاق الضرر به، قاله بعض المتأخرين.
والثالث: معناه لست آخذكم بالإِيمان اضطراراً وإجباراً، كما يأخذ الوكيل بالشيء، قاله الزجاج.
{لِّكُلِ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدهما: معناه أن لكل خَبَرٍ أَخْبَرَ الله تعالى به من وعد أو وعيد مستقراً في مستقبل الوقت أو ماضيه أو حاضره في الدنيا وفي الآخرة، وهذا معنى قول ابن عباس، ومجاهد.
والثاني: أنه وعيد من الله للكافرين في الآخرة لأنهم لا يقرون بالبعث، قاله الحسن.
والثالث: أنه وعيد لهم بما ينزل بهم في الدنيا، قاله الزجاج.
قوله عز وجل: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: وما على الذين يتقون الله في أوامره ونواهيه من حساب الكفار فيما فعلوه من الاستهزاء والتكذيب مآثم يؤاخذون بها، ولكن عليهم أن يذكروهم بالله وآياته لعلهم يتقون ما هم عليه من الاستهزاء والتكذيب، قاله الكلبي.
والثاني: وما على الذين يتقون الله من الحساب يوم القيامة ما على الكفار في الحساب من التشديد والتغليظ لأن محاسبة المتقين ذكرى وتخفيف، ومحاسبة الكفار تشديد وتغليظ لعلهم يتقون إذا علموا ذلك.
والثالث: وما على الذين يتقون الله فيما فعلوه من رد وصد حساب، ولكن اعدلوا إلى الذكرى لهم بالقول قبل الفعل، لعلهم يتقون إذا علموا.
ويحتمل هذا التأويل وجهين:
أحدهما: يتقون الاستهزاء والتكذيب.
والثاني: يتقون الوعيد والتهديد.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8